فصل: بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات

اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء‏.‏

قال الحسن‏:‏ قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين ولكن في الإظهار أيضاً فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال ‏"‏ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ‏"‏‏.‏

والإظهار قسمان ‏"‏ أحدهما ‏"‏ في نفس العمل ‏"‏ والآخر ‏"‏ التحدث بما عمل‏.‏

القسم الأول‏:‏ إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب‏.‏

نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضاً لهم على الحركة فذلك أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست من الإعلان بل هو تحريض مجرد وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به‏.‏

فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل لأن الإيذاء حرام‏.‏

فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم‏:‏ السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة وقال قوم‏:‏ السر أفضل من علانية لا قدوة فيها أما العلانية للقدوة فأفضل من السر‏.‏

ويدل على ذلك

أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين‏.‏

ويدل عليه قوله عليه السلام ‏"‏ فله أجرها وأجر من عمل بها ‏"‏ وقد روي في الحديث ‏"‏ عن عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السر سبعين ضعفا وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة وإنما يخاف من ظهور الرياء ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به فلا خلاف في أن السر أفضل منه‏.‏

ولكن على من يظهر العمل وظيفتان ‏"‏ إحداهما ‏"‏ أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدي به أو يظن ذلك ظناً ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق وربما يقتدي به أهل محلته وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة‏.‏

فغير العالم إذا أظهر به الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به ‏"‏ والثانية ‏"‏ أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدي به وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم‏.‏

فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله لا بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن لذلك غامض ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به ورغبتهم في الخير فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع إسراره فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئاً والسلامة في الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون والحكم فيه أن من قوى قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات لأن ترغيب في الخير والترغيب في الخير خير وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء‏.‏

قال سعد بن معاذ‏:‏ ما صليت صلاة من أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً قط إلا علمت أنه حق‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي وقال ابن مسعود‏:‏ ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على عيرها‏.‏

وقال عثمان رضي الله عنه‏:‏ ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال شداد بن أوس‏:‏ ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه‏!‏ وكان قد قال لغلامه‏:‏ ائتنا بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء‏.‏

وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت‏:‏ لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنباً منذ أسلمت وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى‏:‏ ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون قضي لي بغيره وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله‏.‏

فهذا كله إظهار لأحوال شريفة وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها وفيها غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به‏.‏

فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء بل إظهار المرائي للعبادة إذ لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي‏.‏

فكم منن مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله وقد روي أنه كان يجتاز الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت فصنف بعضهم كتاباً في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه فكانوا يقولون ليت ذلك الكتاب لم يصنف‏!‏ فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه‏.‏

وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدي به منهم والله تعالى أعلم‏.‏

بيان الرخصة في كتمان الذنوب

اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل‏:‏ عليك بعمل العلانية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية قال‏:‏ ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه‏.‏

وقال أبو مسلم الخولاني‏:‏ ما علمت عملاً أبالي أن يطلع على الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد‏.‏

ولا يخلوا الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني والله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر ذلك ليري الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي‏.‏

وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه في ثمانية أوجه‏:‏ ‏"‏ الأول ‏"‏ أن يفرح بستر الله عليه وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة إذ ورد في الخبر ‏"‏ أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنباً ستره الله عليه في الآخرة وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب كتمانها كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله‏.‏

وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي وأثر

الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً ويغتم بسببه‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر‏.‏

وهذا أيضاً من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان‏.‏

‏"‏ الرابع ‏"‏ أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه فإن الذم مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان به عاص وإنما يعصى إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذراً من ذمهم وليس يجب على الإنسان لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به‏.‏

نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادح لعلمه أن الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون وذلك قليل جداً وأكثر الطباع تتألم بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في الدين فكيف لا يغتم به نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع كأنه يحب أن يحمد بالورع ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله فيكون قد طلب بطاعة الله ثواباً من غيره فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد‏.‏

وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذراً من ذلك ويتصور أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم‏.‏

وإنما مراده أن يتركه الناس حمداً وذماً فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم الذم إذ الحمد بطلب اللذة وعدم اللذة لا يؤلم وأما الذم فإنه مؤلم فحب الحمد على الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية النقصان في الدين بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر‏.‏

‏"‏ الخامس ‏"‏ أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضاً فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع من جهة الطبع‏.‏

‏"‏ السادس ‏"‏ أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم فإن الذم مؤلم من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره وقد يخاف شر من يطلع على ذنبه ‏"‏ السابع ‏"‏ مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر وهو خلق كريم يحدث في أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحيي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحياء خير كله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحياء شعبة من الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحياء لا يأتي إلا بخير وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يحب الحيي الحليم ‏"‏ فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه للناس جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء فهو أشد حالاً ممن يستر ويستحيي إلا أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباهاً عظيماً قل من يتفطن له ويدعي كل مراء أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس وذلك كذب بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص ويتصور أن يخلص معه ويتصور أن يرائي معه‏.‏

وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضاً ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحيي من رده وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب فله عند ذلك أحوال أحدها‏:‏ أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء وهذا فعل من لا حياء له‏.‏

فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض‏.‏

فإن أعطي فيتصور له ثلاثة أحوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن يمزح بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد فيهيج خاطر الرياء ويقول‏:‏ ينبغي أن تعطى حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء أو ينبغي أن تعطى حتى لا يذمك ولا ينسبك إلى البخل فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء‏.‏

الثاني‏:‏ أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء فيهيج داعي الإخلاص ويقول له‏:‏ إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى فتسخو النفس بالإعطاء لذلك فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه‏.‏

الثالث‏:‏ أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء ولولا الحياء لرده ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأرذال لكان يرده وإن كثر الحمد والثواب فيه فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل ومقارفة الذنوب‏.‏

والمرائي يستحي من المباحات أيضاً حتى إنه يرى مستعجلاً في المشي فيعود إلى الهدوء أو ضاحكاً فيرجع إلى الانقباض ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء‏.‏

وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير محمود‏.‏

وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر بالمعروف فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب‏.‏

‏"‏ الثامن ‏"‏ أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدي به وهذا العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به وبهذه العلة ينبغي أيضاً أن يخفي العاصي أيضاً معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون منه‏.‏

ففي ستر الذنوب‏:‏ هذه الأعذار الثمانية وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائياً كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ‏"‏ ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم هذا الحطام يحبوك فنقول‏:‏ حبك لحب الناس لك قد يكون مباحاً وقد يكون محموداً وقد يكون مذموماً فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك فإنه تعالى إذا أحب عبداً حببه في قلوب عباده والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغروك وصلاتك وعلى طاعة بعينها فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله‏.‏

والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمود سوى الطاعات المحمودة المعينة فحبك ذلك كحبك المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما‏.‏

بيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء ودخول الآفات

اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفاً من أن يكون مرائياً به وذلك غلط وموافقة للشيطان بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره وهو أن الطاعات تنقسم إلى‏:‏ ما لا لذة في عينه كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهات إنما تصير لذيذة من حيث أنها توصل إلى حمد الناس وحمد الناس لذيذ وذلك عند اطلاع الناس عليه‏.‏

وإلى‏:‏ ما هو لذيذ وهو أكثر ما لا يقتصر على البدن بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق وغير ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة‏.‏

القسم الأول‏:‏ الطاعات اللازمة للبدن - التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها - كالصوم والصلاة والحج فخطرات الرياء فيها ثلاث ‏"‏ إحداها ‏"‏ ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيها فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها‏:‏ ألا تستحيين من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل‏.‏

‏"‏ الثانية ‏"‏ أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثاً دينياً فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن القبول‏.‏

‏"‏ الثالثة ‏"‏ أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهراً حتى يتمم العمل لأن الشيطان يدعوك أولاً إلى ترك العمل فإذا لم تحب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء إذا لم تجب ودفعت بقي يقول لك‏:‏ هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه‏.‏

ومثال من يترك العمل لخوفه أن يكون مرائياً كمن سلم غليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال‏:‏ خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل ويقول‏:‏ أخاف إن اشتغلت به لم تخلص خلاصاً صافياً نقياً‏.‏

فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى له‏.‏

ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً على الناس أن يقولوا أنه مراء فيعصمون الله به‏.‏

فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب العبادة وترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فما له ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص وأي فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال إنه غافل مقصر بل ترك العمل أشد من ذلك‏.‏

فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له‏:‏ الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة‏.‏

فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سرباً تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن

ذلك لا ينقطع وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات‏.‏

فما دمت تجد باعثاً دينياً على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل‏.‏

فإن قال لك الشيطان‏:‏ أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفاً ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في العمل لله فلا بد أن

يبقى معه أصل قصد الثواب‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة‏.‏

روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال‏:‏ لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة‏.‏

وقال إبراهيم التيمي‏:‏ إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة‏.‏

وقد ورد في ذلك آثار كثيرة قلنا‏:‏ هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه‏.‏

وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل‏.‏

والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء‏.‏

وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك‏.‏

وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء‏.‏

وأما قول التيمي‏:‏ إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذراً من العجب‏.‏

فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق وإنما ذكره القسم الثاني‏:‏ ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال‏.‏

أما الخلافة والإمارة‏:‏ فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاماً فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أول من يدخل الجنة ثلاثة‏:‏ الإمام المقسط أحدهم‏.‏

وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل أحدهم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل رواه أبو سعيد الخدري‏.‏

فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعياً في حظ نفسه ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقاً ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً وعند ذلك يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شراً من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه‏.‏

ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول من يأخذها بما فيها وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره رواه معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أشر على قال‏:‏ اجلس واكتم على‏.‏

وروى الحسن ‏"‏ أن رجلاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي‏:‏ خر لي قال ‏"‏ اجلس وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر‏:‏ لا تأمر على اثنين ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع‏:‏ ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني لعنة الله‏.‏

ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضاً وليس كذلك بل الحق فيه أن الخواص

الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم أرواحهم فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ نفاذ الأمر فتكره العزل فيداهن خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون‏:‏ لا يجب أن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس والصحيح أن عليه الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير فلو وعدت بالخير جزماً لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع فالعزل مؤلم وهو كما قيل العزل طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال الحق وتهوى به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهراً وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية‏.‏

ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنا لا نولي أمرنا من سألنا فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعاً عن الولاية ثم تقلده لها ليس بمتناقض‏.‏

وأما القضاء‏:‏ فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما‏.‏

فإن كل ذي ولاية أمير - أي له أمر نافذ - والإمارة محبوبة بالطبع والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق والعقاب فيه أيضاً عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وقاض في الجنة وقال عليه السلام ‏"‏ من استقضى فقد ذبح بغير سكين فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم‏.‏

ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذراً مرخصاً له في الإهمال أصلاً بل إذا عزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لأتباع الهوى والشيطان فكيف يرتقب عليه ثواباً وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار‏.‏

وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية - وكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به القدر‏:‏ فآفته أيضاً عظيمة مثل آفة الولايات وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلاً وكانوا يقولون‏:‏ باب من أبواب الدنيا ومن قال‏:‏ حدثنا فقد قال أوسعوا لي‏.‏

ودفن بشر كذا وكذا قمطراً من الحديث وقال‏:‏ يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت‏.‏

والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقاً ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثاً وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولاً ثم يقول‏:‏ إذا أنعم الله علي بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون‏.‏

فهذا أيضاً مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه‏.‏

فإن قلت‏:‏ مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وهم الجهل كافة الخلق فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها حتى قال ‏"‏ إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها وقال ‏"‏ نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعاً وثار القتال بين الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك وضرب عمر رضي الله عنه أبي بن كعب - رأى قوماً يتبعونه وهو في ذلك يقول‏:‏ أبي سيد المسلمين وكان يقرأ عليه القرآن فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنع فقال‏:‏ أتمنعني من نصح الناس فقال‏:‏ أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق‏.‏

والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما فأما قول القائل‏:‏ نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط إذ نه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل القضاء بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلاً فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعاً للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك فإن قال‏:‏ لست أقدر على نفسي فنقول‏:‏ اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم إذ لا قائم به غيره ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته‏.‏

فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت فيجب إخلاء البلاد منهم فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله‏.‏

ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تأمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغنى عنكم ان تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم‏:‏ لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم‏:‏ إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم‏:‏ أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي ناس أخس منكم لو تعلمون ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدجلين وتقيمون في محلة المتجبرين‏!‏ كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً‏!‏ ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم‏!‏ كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة‏!‏ يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم يدفعكم العلم من خلفكم ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم‏.‏

وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال‏:‏ هؤلاء السوء شياطين الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم لخاسرون‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه إلى غير ذلك من فضائل العلم فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي للوعظ والتدريس ورواية الحديث ولا نقول له أيضاً اتركه ما دام يجد في نفسه باعثاً دينياً ممزوجاً بباعث الرياء أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار أنفع له وأسلم‏.‏

وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم‏.‏

وبالجملة فالمراتب ثلاث ‏(‏الأولى‏)‏ الولايات والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفاً من الآفة ‏(‏الثانية‏)‏ الصوم والصلاة والحج والغزو وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة‏.‏

وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة ‏(‏الثالثة‏)‏ وهي متوسطة بين الرتبتين وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة فالصلاة ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأساً دون الأقوياء ومناصب العلم بينهما ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم‏.‏

وهنا رتبة رابعة وهي‏:‏ جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين فإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلاباً للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس والآفات فيها أيضاً كثيرة‏.‏

ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال‏:‏ القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا وأن من الزهد تركها قربة إلى الله تعالى‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين ديناراً أتصدق بها أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏.‏

وقد اختلفت العلماء فقال قوم‏:‏ إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل وقال قوم‏:‏ الجلوس في دوام ذكر الله أفضل والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام‏:‏ يا طالب الدنيا ليبر بها تركك لها أبر وقال‏.‏

أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل‏.‏

وهذا فيمن سلم من الآفات فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل‏.‏

وبالجملة‏:‏ ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات والأحب أن يعمل ويدفع الآفات فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع‏.‏

وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه لأن النفس لا تشير إلا بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه وإن كان لا يبعد ذلك أيضاً في بعض الأحوال وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر فيه لدينه ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل‏.‏

ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلاً عن الصدقات أفضل من إمساكه وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب‏:‏ أن الأفضل الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر وذلك لما في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال‏.‏

فإن قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق في وعظه غير مريد رياء الناس فاعلم أن لذلك علامات ‏)‏إحداها‏(‏ أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً أو أغزر منه علماً والناس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل عمله ‏)‏والأخرى‏(‏ أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه فينظر إلى الخلق بعين واحدة ‏)‏والأخرى‏(‏ أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق‏.‏

ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها‏.‏

وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال‏:‏ كنت جالساً إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل يلتفت في المسجد فلم ير حلقه أحفل من حلقة الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد‏:‏ وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له - يتكلم في كل يوم - فما قطع الحسن كلامه قال سعيد‏:‏ فقلت في نفسي لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن ثم قال‏:‏ صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملنا من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها قال‏:‏ ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن - حين قام الحجاج - فقال‏:‏ عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير وأني أغزوا فأكلف فرساً وبغلاً وأكلف فسطاطاً وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه والحسن مكب فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال‏:‏ ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا أغزى أخاه أغزاه طاوياً راجلاً فما فترة الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا‏:‏ أجب الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك إنما كان يتبسم فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال‏:‏ إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بناء إلى شرارة من نار‏!‏ إني أتيت هذا الرجل فقال‏:‏ أقصر عليك من لسانك وقولك‏:‏ إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه‏:‏ أغزاه كذا‏!‏ لا أبا لك‏!‏ تحرض علينا الناس أما إنا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك قال‏:‏ فدفعه الله عني‏.‏

وركب الحسن حماراً يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوماً يتبعونه فوقف فقال‏:‏ هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة الباطن‏.‏

ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون‏.‏

اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين‏.‏

بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح

اعلم أن الرجل قد بيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلاً وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم لما انبعث هذا النشاط فهذا ربما بظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة وليس كذلك على الإطلاق بل له تفصيل لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل وصيام النهار ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو تستهويه الغفلة فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير أو تمكنه من التمتع بزوجته أو المحادثة مع أهله وأقاربه أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتر رغبته عن الخير وحصلت له أسباب باعثة على الخير كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا فإنه ينظر إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء أو ربما يفارقه النم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم وفي منزله ربما يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام والنفس لا تسمح بالتهجد دائماً وتسمح بالتهجد وقتاً قليلاً فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب باعث الدين فإذا سلم منها قوي الباعث‏.‏

فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول‏:‏ لا تعمل فإنك تكون مرائياً إذا كنت لا تعمل في بيتك ولا تزد على صلاتك المعتادة وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم وخوفاً من ذمهم ونسبتهم إياه إلى الكسل لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته وعند ذلك قد يقول الشيطان‏:‏ صل فإنك مخلص ولست تصلى لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم‏.‏

وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق‏.‏

وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه فإن سخت نفسه فليصل فإن باعثه الحق وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن باعثه الرياء‏.‏

وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ويشتغل بالعبادة‏.‏

وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفاً من الله تعالى لا من الرياء ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وقد لا يحضره البكاء فيتباكى - تارة رياء وتارة مع الصدق - إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفاً وذلك محمود‏.‏

وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا إن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي‏.‏

قال لقمان عليه السلام لابنه‏:‏ لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر‏.‏

وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال تارة تكون من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على أنه كثير الحزن ليعرف بذلك فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء وإن اقترنت بداعية الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه وإن قبل ذلك وركن غليه بقلبه حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به وقد يكون أصل الأنين عن الحزن ولكن يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد الرياء فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه ولكن يسبقه خاطر الرياء فيقبله فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد أن استرسلت لخشية الله ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء‏.‏

وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة فيزعق ويتواجد تكلفاً ليرى أنه لكونه مغشياً عليه وقد كان ابتداء السقطة عن صدق وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال حالته غير ثابتة وإنما هي كبرق خاطف فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله وكذلك قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه فيستديم إظهار الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه فيستديم إظهار الضعف والأنين

فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي‏.‏

فهذه كلها مكايد الشيطان ونزغات النفس‏.‏

فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره لمقتوه وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتاً كما روي عن ذي النون رحمه الله أنه قام وزعق فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ‏!‏ الذي يراك حين تقوم فجلس الشيخ وكل ذلك من أعمال المنافقين‏.‏

وقد جاء في الخبر ‏"‏ تعوذوا بالله من خشوع النفاق وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة بالله من عذابه وغضبه فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون للمراءاة‏.‏

فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة وهي مع تقاربها متشابهة فراقب قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن يكون قد خفي عليك شيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل وكن على وجل من عبادتك أهي مقبولة أم لا أخوفك على الإخلاص فيها واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جداً فإن خطر لك فتفكر في اطلاع الله عليك ومقته لك‏.‏

وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال‏:‏ يا أيوب أما علمت أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزى بسريرته‏.‏

وقول بعضهم‏:‏ أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت‏.‏

وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما‏.‏

اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي محافظاً على رياء الناس من نفسي مضيعاً لما أنت مطلع عليه مني أبدي للناس أحسن أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي تقرباً إلى الناس بحسناتي وفراراً منهم إليك بسيآتي فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك أعذني من ذلك يا رب العالمين‏.‏

وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام‏:‏ يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات الرياء‏.‏

فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر ‏"‏ إن للرياء سبعين بابا وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض حتى إن بعضه مثل دبيب النمل وبعضه أخفى من دبيب النمل وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة وليته أدرك بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن خدعها نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه‏.‏

بيان ما يلزم العبد قبل العمل وبعده وفيه

اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع طاعاته ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله فأما من خاف غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصاً على الإفشاء وتقول‏:‏ مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه الخلق منك لسجدوا لك‏!‏ فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه ويتذكر في مقابلة عظم عمله‏:‏ عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب الله ومقته على من طلب بطاعته ثواباً من عباده ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول‏:‏ وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول‏:‏ إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلصون فليس ذلك من شأنهم فيترك المجاهدة في الإخلاص لأن المخلص إلى ذلك أحوج من المتقي لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت فرائضه كاملة تامة والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخوذاً بالفرائض وهلك به فالمخلط إلى الإخلاص أحوج‏.‏

وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ يحاسب العبد يوم القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن لم يكن له تطوع أخذ بطرفيه فألقي في النار فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة‏.‏

فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلاً من عمله خائفاً أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه فيكون شاكاً في قبوله ورده مجوزاً أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها ويكون هذا الشك والخوف في دوام عمله وبعده إلا في ابتداء العقد بل ينبغي أن يكون متيقناً في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء فيكون رجاء القبول أغلب وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات‏.‏

فالإخلاص‏:‏ يقين والرياء‏:‏ شك‏.‏

وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه‏.‏

والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة لعلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه فإن ذلك يحبط الأجر‏.‏

فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه أو تردداً منه في حاجة فقد أخذ أجره فلا ثواب له غيره‏.‏

نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره ولكن خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذ كان لا ينتظره ولا يريد منه ولا يستبعده منه لو قطعه‏.‏

ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلاً ليرفعوه فخلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثاً خيفة أن يحبط أجره‏.‏

وقال شقيق البلخي‏:‏ أهديت لسفيان الثوري ثوباً فرده علي فقلت له‏:‏ يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال‏:‏ علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره‏.‏

وجاء رجل إلى سفيان بيدرة أو بدرتين وكان أبو صديقاً لسفيان وكان سفيان يأتيه كثيراً فقال له‏:‏ يا أبا عبد الله في نفسك من أبي

شيء فقال‏:‏ يرحم الله أباك - كان وكان وأثنى عليه - فقال‏:‏ يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك ‏"‏ قال ‏"‏ فقبل سفيان ذلك ‏"‏ قال ‏"‏ لما خرج قال لولده‏:‏ يا مبارك الحقه فرده علي فرجع فقال‏:‏ أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه‏.‏

وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك‏.‏

قال ولده‏:‏ فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت‏:‏ ويلك أي شيء قلبك هذا‏!‏ حجارة عد أنه ليس لك عيال‏!‏ أما ترحمني أما ترحم إخوتك أما ترحم عيالنا فأكثرت عليه فقال لي‏:‏ يا مبارك تأكلها أنت هنيئاً مريئاً وأسأل عنها أنا‏.‏

فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط ويحب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم وعند الخلق‏.‏

وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته فيتعلم منه وهو خطأ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد فكيف يخسر في الحال عملاً نقداً على توهم علم‏!‏ وذلك غير جائز بل ينبغي أن يتعلم الله ويعبد الله ويخدم المعلم لله لا ليكون له في قلبه منزله إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره‏.‏

وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث أن رضا الله عن في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضاً‏.‏

وأما الزهد المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه ولا يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى تتيسر عليه العبادات في خلوته به‏.‏

وإنما سكوته لمعرفة الناس باعتزاله واستعظامهم لمحله وهو لا يدري أنه المخفف للعمل عليه‏.‏

قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت‏:‏ يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك قال‏:‏ منذ سبعين سنة قلت‏:‏ فما طعامك قال‏:‏ يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت‏:‏ أحببت أن أعلم قال‏:‏ في كل ليلة حمصة قلت‏:‏ فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال‏:‏ ترى الدير الذي بحذائك قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة‏!‏ فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال‏:‏ حسبك أو أزيدك قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ أنزل عن الصومعة فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي‏:‏ ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا‏:‏ يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ قلت‏:‏ من وقته قالوا‏:‏ فما تصنع به ونحن أحق به ثم قالوا‏:‏ ساوم‏!‏ قلت‏:‏ عشرون ديناراً فأعطوني عشرين ديناراً فرجعت إلى الشيخ فقال‏:‏ يا حنيفي ما الذي صنعت قلت‏:‏ بعته منهم قال‏:‏ بكم قلت‏:‏ بعشرين ديناراً قال‏:‏ أخطأت‏!‏ لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة‏.‏

والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً في الخلوة وقد لا يشعر العبد به فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعاً إلا كراهة ضعيفة إن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه فإنه لو كان في عبادة واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعاً ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه فإن دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه إلا أن يزيد عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه فذلك لا بأس به ولكن فيه غرور إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما حصل بأن يعدو كثيراً أو يضحك كثيراً أو يأكل كثيراً فتسمح نفسه بذلك فإذا لم تسمح وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق‏.‏

ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة في نفسه لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرماً له بذلك الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويجب إلى القلب المسكنة والنظر إلى الأغنياء بخلافه فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه‏.‏

نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة ولكن يكون بحيث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة‏.‏

فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعاً في غناه ورياء له ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية له ما لي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة فقال‏:‏ الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت‏!‏ فإن اللسان ينطق عند الغني لما لا ينطق به عند الفقير وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا يحضره عند الفقير‏.‏

ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى الله من قلبك وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة في أيام متقاربة وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات وساعدته اللذات ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات وصبر على مفارقتها فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم نقصاناً لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة المكروهات فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف وترك المؤانسة بالخلق خوفاً من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذاب فخف ذلك كله عليه شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم في رضوان الله أبد الآباد ثم علم أن الله كريم رحيم لم يزل لعباده المريدين لمرضاته عوناً وبهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً ولو شاء لأغناهم عن التعب ولكن أراد أن يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلاً ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر وحبب إليه الطاعة ورزقه فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى سياسته وتقويته وأمده بمعونته فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب وهو الذي يقول ‏"‏ من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ‏"‏ ويقول تعالى ‏"‏ لقد طالل شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقاً ‏"‏ فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته‏.‏

تم كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده ‏.‏